فضاء حر

للفساد وجهان

يمنات

غازي الجابري

ليس الفساد دائمًا ما نراه في العلن، في مكاتب المسؤولين أو صفقات المال أو قرارات الظلم. الفساد أوسع من ذلك، أعمق وأخطر، لأنه لا يعيش إلا بوجهين؛ وجهٍ ظاهرٍ فاضحٍ، ووجهٍ خفيٍّ صامتٍ يبتسم في الظلام.

الوجه الأول هو الذي نعرفه جميعًا: موظف يبيع ضميره، مسؤول يستغل منصبه، تاجر يغش، ومواطن يسرق من المال العام باسم “الحق في الحياة”. هؤلاء نراهم وندينهم، لكنهم ليسوا وحدهم في ساحة الفساد. هناك من يهيئ لهم الأرض، ويغطي على جريمتهم بالصمت أو التبرير أو الخوف، وهؤلاء هم الوجه الثاني… الوجه الذي يُغذّي الفساد أكثر من الفاسد نفسه.

الفساد لا يقوم فقط باليد التي تأخذ الرشوة، بل أيضًا بالعين التي تراها وتسكت، وبالقلب الذي يعرف الحق ويميل عنه. إن الفاسد الأول يفسد المؤسسات، أما الصامتون فيفسدون الضمائر. ومن ضياع الضمير تبدأ كل أشكال الانهيار.

إن الفساد لا يُولد فجأة، بل ينمو في بيئة من التهاون والسكوت، حين يصبح الناس يرون الخطأ عادة، ويبررونه بأنه “هكذا تسير الأمور”. هنا يتحول الفساد من سلوك شاذ إلى ثقافة، ومن جريمة إلى أسلوب حياة، ومن استثناء إلى قاعدة.

وما أشدّ خطر الوجه الثاني، لأنه يختبئ خلف الأقنعة: قناع الأدب، وقناع الخوف، وقناع المصلحة. هو وجه الناس الطيبين الذين لا يريدون “المشاكل”، والذين يظنون أن السكوت نجاة، بينما هو مشاركة غير معلنة في الخراب.

حين نقول “كفى فسادًا”، يجب أن نقول أيضًا “كفى صمتًا”. فالأوطان لا تسقط فقط حين يكثر فيها الفاسدون، بل حين يقلّ فيها الشرفاء الذين يجرؤون على قول كلمة حق. إن إصلاح الأمة لا يبدأ من تغيير القوانين فقط، بل من تغيير النفوس، من إحياء الضمير الذي مات تحت رماد العادة والخوف.

للفساد وجهان: أحدهما يسرق المال، والآخر يسرق المعنى.

الأول ينهب خزائن الدولة، والثاني ينهب روح المجتمع.

وكلاهما وجهان لعملة واحدة… عملة الخراب الإنساني.

زر الذهاب إلى الأعلى